الحمد لله، من المعروف أنّ نزعة الانحراف التي للشيطان تجاه أمر الله هي نزعتان إما إلى إفراط و إما إلى تفريط، و هي الخطوة الأولى والانطلاقة الأساسية لنشوء البدعة وتقريراتها وما يتولد عنها من فرق بدعية.
وإنّ أوّل خطوة منحرفة في تكوين البدعة تكمن في أصول الاستدلال فإنّ المبتدعة يعتقدون ثم يستدلون، وكلما مر بهم الزمن زاد انحرافهم فزادت استدلالاتهم للأصول الجديدة المنحرفة، فتولدت من جرّاء هذه الاستدلالات أصولٌ جديدة لهم ينجم، عنها فِرقاً جديدة.
ومن جنس هؤلاء المبتدعة ما بُلي به المسلمون من الطرقية الصوفية وخصوصاً في عصرنا الحاضر، ومن هذه الطرق في عصرنا الحاضر الطريقة "الحصافية" التي كان ينتمي لها حسن البنا وشيخه وصاحبه أحمد السكري، فأسس الاثنان ما سمياه بجماعة الإخوان المسلمين، وكان من مهامها الدعوة إلى التصوف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي بالضبط نفس دعوة ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين الباطنية في المغرب العربي، وكما تقرر سابقاً أن البدعة ولّادةٌ لبدعٍ وفرق أخرى.
فأهل البدع أهل خلاف وفُرقة ونجده. يتضح أمامنا هنا فعندما دبَّ الخلافُ بين احمد السكري مؤسس الجماعة و حسن البنا اتضح النهج الباطني أكثر واكثر، وذلك عندما اعتمد حسن البنا في دعوته مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفع شعارها فخرج بذلك من كونه صوفياً فقط إلى كونه باطنياً كابن تومرت الباطني الصوفي الأشعري الذي اعتمد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في دعوته تسيساً لا عقيدة وشعيرة كما جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نفسُ فعل ابن سبأ.
فبدء النشاط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي يعني عند هؤلاء بداية النشاط السياسي وتكريس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكريساً سياسياً، و بدأ مع هذا التسييس الاغتيالات السياسية الغادرة للمسلمين إقراراً للأسلوب الباطني في التعامل مع الخصوم فأسس حسن البنا كياناً داخل الجماعة وسماه (النظام الخاص) والذي كانت مهمته الاغتيالات السياسية.
ويجب أن نعرف أن السمة العامة في التصوف عدم مباشرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا رأيت حركة صوفية تبنت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاعلم أنها على اعتاب تحرك وتوجه سياسي باطني، لأن أهل البدع كلهم يفسر الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في نهاية الأمر بالسيف على الإمام وعلى أهل السنة ولا سبيل لذلك إلا بتأسيس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بعد هذا كله بدأت تتضح لنا معالم وركائز البنائية ومن أهمها أنها قائمة على أساس من التحزب كأي فرقة بدعية ليصل التحزب إلى ذروته بنفي الاسلام عن كل من لا يؤمن بمنهج جماعته.
قال حسن البنا (نعلن في وضوح وصراحة أن كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهاج ولا يعمل لتحقيقه لا حظ له في الاسلام) [رسائل حسن البنا ص 86 ]، وكما نعلم أنّ الحزبية هي كل انفراد عن جماعة المسلمين وإمامهم وما قاموا علية من أصول على سبيل المناقضة أو المضادة أو المخالفة أو الإخلال.
وفي تقرير حسن البنا السابق يتجلى أمامنا المناقضة لجماعة المسلمين والإخلال بهم والمضادة لعقيدتهم ومخالفتها.
و كما هو معروف بدهياً أن لكل تحزب ركائزه الخاصة به التي تتبع بدعته وتقريراتها التي يدور حولها.
فنجد البنائية في تحزبها و سيرها الحركي النابع من فهمها الباطني للإسلام قائمة على ركيزتين الاولى الانتقائية الحزبية والثانية الاحتوائية العامة، وقد تجلت هاتان النزعتان والركيزتان في أطروحات حسن البنا و تقريراته الحزبية.
فمن حيث الركيزة الأولى وهي الانتقائية تواجهنا أبرز عبارات حسن البنا الشهيرة عندما حدد وانتقى من يكون تحت ولائه في دعوته فقال (دعوتنا صوفية سلفية) تحديدً بهذا اللفظ فلم يقل دعوتنا صوفية شيعية لأنه يعلم أن (الشيعة الرافضة) لهم عقيدة سياسية تحزبية على أشخاص فلا يصلحون له لان تحزبهم هذا يفسد عليه تحزبه او ما يسمى بالأيدلوجيا السياسية، فحقق حسن البنا بذلك النزعة الانتقائية.
فتجد التنظيم الإخواني يتعامل مع الرافضة على مستوى الكيانات على أنهم كيان آخر مستقل عنهم يشكل أثنية ايدليوجية، فتعامل حسن البنا مع الشيعة على أنهم كيان منظمي وولائي آخر خارج عن أُطر حزبه، وليس لوجود الخلاف العقدي بل لوجود التحزب السياسي الشخصي عندهم ليس إلا، وهذا لا يمنع وجود أفراد من الشيعة في تنظيم الاخوان، لكن لم نجد دخولاً لكيان الشيعة ككل تحت ولاية مرشد الاخوان لأنه هو المقصود ولأن هذا الدخول سيضر بركيزة الاحتوائية عند حسن البنا، فأتى التنظيم الاخواني بفكرة التقريب بين السنة والشيعة لتحقيق الانتقائية والاحتوائية ولو بنسبة طفيفة.
وأما بالنسبة للانتقائية من جهة التقريرات العلمية فإنها تتضمن ضرورة تحييد عناصر علمية كما في العقيدة السلفية إما بإهمالها وتهميشها، وذلك بإبراز ماهو أقل منها شأنا كالاهتمام بالأخلاقيات التعاملية بين الناس على حساب توحيد الألوهية أو بتحريف هذه العناصر العلمية عن المفهوم الأصلي لها.
فالبنائية تتجه إلى تحييد كل ما من شأنه إضعاف كيانها كأصل الرد على المخالف او الاهتمام بتوحيد الألوهية بمعنى آخر محاولة إعادة صياغة العقيدة السلفية على أساس مبدأ الانتقائية لكي تتوافق مع التجمع الإخواني الجديد وتخدم النزعة الثانية والتي تعد أهم ركائز البنائية وتمهد لها الطريق ألا وهي النزعة الاحتوائية وتحويل الإسلام الى إطار عام يوافق الليبرالية الأخلاقية الكانطية والتي تتجلى بوضوح في قاعدة حسن البنا المشهورة والتي تعد دستور جماعته المزعومة ألا وهي (نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) فقد كرس حسن البنا في هذه القاعدة النزعة الاحتوائية بشكل واضح بل امتد الأمر إلى احتواء البنائية لكل الفرق المتولدة عنها كالقطبية والسرورية مع اعتراف البنائية باستقلال السرورية والقطبية عنها بعد مرور القطبية و السرورية بعدة مراحل، وهنا تكمن خطورة البنائية في القدرة بشكل ماكر على الاحتواء الحزبي وتسييس كل الجماعات لصالح مشروعها الأم وهي العالمية التنظيمية الباطنية مثل عالمية الفاتيكان أو عالمية الماسونية، فلا يعني الوطن عند البنائية أي شئ لتحقيق هذه العالمية المزعومة.
والاحتوائية لا تعني السعي إلى الاتحاد على عقيدة واحدة حتى لو كانت ضالة، بل تعني العمل سوياً مع السماح باختلاف العقائد وتعددها وتوالدها والدعوة إليها مع منع أي عقيدة أو موقف يقوم بإعاقة وضرب التحزب وهذه الركيزة بهذا المفهوم التعددي لها فوائد كثيرة للاتجاه البنائي، منها خروج البنائية في البلد الذي تسود فيه عقيدة ما بهذه العقيدة السائدة فيه وذلك بعد تحريف أو تحييد أي عنصر داخل العقيدة هذه أو تلك يضر بالحزبية أو بالولاء للمرشد كمحاولتهم تحريف باب الولاية العامة في العقيدة السلفية و تسويغ تعدد الولايات أو عدم الاعتراف إلا بولاية خليفة واحد على جميع ديار المسلمين أو محاولة تحييد العقيدة في الولاية العامة وجعلها ضمن ابواب الفقه والفروع بعد ان كانت من اهم ابواب العقيدة وأصول الدين.
ولفهم الاحتوائية بشكل أكثر فإنها تسمح بوجود الولاءات الضيقة مثل الولاءات الطرقية الصوفية لشيوخ طرقهم بشرط أن لا تكون هذه الولاءات سياسية منفرد أي أنها ذات كيان ككيان الشيعة أي أن لا تكون مضرة بتحدي تنظيم الإخوان.
أن من أهم وظائف هاتين الركيزتين هو التسويغ للتعددية الدينية وذلك تكريساً للفردية والتعددية السياسية في كل بلد وليقوم التنظيم البنائي بالاشراف العام على هذه التعددية عن طريق المرشد ليحقق العالمية.
إنه لمن الصعب بمكان لدى أي تنظيم الجمع بين الانتقائية والاحتوائية إلا من كان لديه أهداف معلنة واخرى مخفية وخصوصاً في مجال السياسة لذلك تجد هذا التنظيم البنائي يدفع من احتوائهم ليصلوا بالمرحلة والحالة إلى نقطة تستطيع البنائية الامساك بزمام الأمور ويحيد ويهمش من كان له ظهور في الساحة بعد أن تتهيأ الساحة للانطلاقة البنائية.
وإذا تعرض هذا الاتجاه البنائي للخطر قدّم أحد هذه الاتجاهات التي اختارها أو خرجت من رحمه كبش فداء فيعمي أنظار الناس عنه ليرتب أوراقه من جديد.
إنّ أيّ تنظيم يعتمد على ركيزتي الانتقاء والاحتواء يجب ان يكون سلوكه قائم على عدة سمات أهمها الغموض و الهدوء في التحرك لو مرحلياً والمكر والصبر ويجب أن يبتعد عن مواضع الصراع وانكشاف الأوراق ومن سماته أيضا أنه على استعداد تام بالتضحية بأي أحد من أتباعه إمعانا في الهدوء والاختباء.
لقد رأى الغرب بعينه الاستشراقية الاستعمارية أن تفعيل واستغلال الرافضة و المتصوفة استغلالاً سياسياً بطريق مباشر أو غير مباشر هو أفضل أداة للسيطرة على المسلمين بمنعهم من معرفة المعتقد الصحيح الذي هو سبيل الرفعة في الدنيا والآخرة.
إنّ من أهم الامور والخطوات التي يجب اتخاذها لمواجهة البنائية هي ضرب الانتقائية وضرب الاحتوائية علمياً وعملياً، فأما على المستوى العلمي فتبيين عقيدة السلف الصالح للأجيال تبيناً شافياً كافياً وخصوصاً عقيدة السلف في الولاية العامة والبيعة والسمع الطاعة و الامر الآخر ربط البنائية علمياً بالجماعات المتولدة عنها ومنها.
وأما ضرب البنائية عملياً فيُقطع السبيل عليها لتقرير أو تسويغ أي وجه من أوجه التعددية الدينية لأنهم يريدون بالتعددية تمكين الديمقراطية عملياً سواء على الصعيد السياسي أو التربوي أو الإعلامي ولو تلميحاً.
لقد نصبت البنائية نفسها حامية لهذا التنظيم الباطني العالمي الذي تريد أن تحصر الفرق الاسلامية داخله مع بقاء استقلالية كل فرقة عن الاخرى بشكل عام، مع ادعائها انها بهذه الكينونة الجديدة تكوّن وتمثل جماعة المسلمين مع حرصها القضاء على كل عقيدة من شأنها أن تضرب ركائز هذا التجمّع والتنظيم الباطني الخبيث.
إذاً فالبنائية تتعامل مع الفرق وكأنهم اشخاص لكل واحد استقلالية مع إمكانية تأثر بعضهم ببعض مع انتمائهم في نفس الوقت إلى مؤسسة واحدة مع دعمها لهذه الاستقلالية الفردية ودعمها وتنميتها، بشرط أن لا تضر بالكينونة الباطنية التي تحتويهم وهنا مربط الفرس.
فالبنائية بهذه الفلسفة تعتنق عقيدة الخوارج و تحرّف مفهوم الجماعة والإمارة والسمع والطاعة فتغير بذلك مفهوم الدولة وهذا ما تنطلق منه الفردية الغربية الإلحادية مثل فلسفة هوبز و جان جاك روسو الفرنسي وجان لوك البريطاني حيث حاول هؤلاء تغيير وقلب مفهوم الدولة إلى درجة التذويب والاعتماد على ما يسمى بجماعات الضغط والمصالح والاحزاب والتيارات ويختصرونها في مفهوم المجتمع المدني أو دولة المؤسسات المدنية فهي ليست دولة (امام وجماعة وبيعة) كلا بل هي دولة مؤسسات مدنية لكل مؤسسة استقلالها وتبعيتها الخاصة بها وهذا يضاد بل يناقض مفهوم الإسلام للدولة وهو عينه مفهوم السلف الصالح أهل السنة والجماعة والذي يرتكز على وحدة البيعة وبالتالي وحدة السمع والطاعة في هذا المجال.
لقد امعنت البنائية في اعتناق وتقرير المذهب الفردي بتحريف مفاهيم الدين الإسلامي ومنه مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتمدته كأداة سياسية لا أداة إصلاحية ومبدأ تنطلق منه الدولة قال تعالى ( الذين ان مكناهم في الارض اقاموا الصلاة واتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) فحاولت تحييد هذه الشعيرة العظيمة عن أعمال الدولة واذا حاولت الدولة أن تقوم بهذه الشعيرة وجهت لهذا العمل سهام التشكيك والتخوين واذا تولى أحد عناصر البنائية هذا الأمر في الدولة حرّفه عن مفهومه الصحيح ووجّهه نحو الخارج في خُطبه واطروحاته وقراراته ان استطاع ليخرجه من كونه من واجبات الدولة.
نخلص مما سبق إلى عدة أمور من أهمها:
أولاً: أن البنائية من أخطر فرق تنظيم الاخوان بصفتها قاع الناء بالنسبة لباقي فرق تنظيم الاخوان.
ثانياً: أن الحزبية هي الانفراد عن جماعة المسلمين وإمامهم وما قاموا عليه من أصول ( العقيدة).
ثالثاً: أن البنائية أخذت على عاتقها تحريف أصل الولاية العامة والسمع والطاعة والبيعة لولي الأمر أو تحييدها وتهميشها ونقلت ذلك إلى باقي الفرق المتولدة عنها.
رابعاً: أن الانتقائية البنائية قائمة على بعدين الأول انتقاء الفِرق التي تخدم الجماعة التنظيمية، والثاني انتقاء العقائد والمفاهيم من كل فرقة بما يخدم جماعتهم وذلك بإبرازها و تحييد ما يضر الاحتوائية.
خامساً: أن الاحتوائية لا تعني توحيد العقائد بدعوة أهلها إلى العقيدة الصحيحة، بل تعني إبقاء الفِرق في إطار الحزب مع استقلال الفرق بعضها عن بعض بما يسوغ التعددية الدينية ويكرس للتعددية السياسية. ا.هـ
كتبه فضيلة الشيخ : عبدالله بن محمد الشبانات
مدير عام فرع الرئاسة العامة بمنطقة الرياض