ربطت الشريعة المرء بوطنه والانتماء
إليه، وأقرت الفطر السليمة على حبه، وأوجبت الدفاع عن أراضيه؛ لأن هذه المحبة،
وهذا الانتماء هو الدافع إلى القيام بنهضة هذا الوطن، والمساهمة في تنميته، وأن
يكون المرء من بناته، الساعين في رفعة شأنه، سواء في مجال عمله، أو ما يحسنه من
مواهب، وهذا الأمر لا يختص بفئة دون أخرى، وليس حكرا على جنس الرجال دون النساء،
أو الكبار دون الصغار، فإن هذه أمور فطرية لا بد من استثمارها الاستثمار الأمثل؛
لتكون لبنة في بناء هذا الوطن الكبير.
وإن من تأمل أحكام الشريعة وجدها تعزز
جانب الانتماء لوطن الإنسان، ويتضح ذلك من استعراض شيء من أحكام الشريعة في هذا الجانب:
فقد أوجبت الشريعة الدفاع عن الوطن
بالنفس والمال إذا دهمه العدو، وهو ما يعرف بجهاد الدفع، فأوجب أهل العلم بالإجماع
الدفاع عن الدين والوطن والحرمات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمة الله-:
«وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعا، فالعدو
الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له
شرط، بل يدفع بحسب الإمكان»([1]).
وقال ابن القيم-رحمه الله-: «قتال الدفع
أوسع من قتال الطلب وأعم وجوبا، ولهذا يتعين على كل أحد يجاهد فيه: العبد بإذن
سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه، وهذا كجهاد
المسلمين يوم أحد والخندق»([2]).
وعلى هذا تتابع أهل العلم –رحمهم الله-،
ويصدق على هذا حماية ثغور الوطن من المعتدين، فإن هذا من الرباط في سبيل الله.
قال شيخنا ابن باز-رحمه الله-: «دل
الكتاب والسنة الصحيحة على أن الرباط في الثغور من الجهاد في سبيل الله لمن أصلح
الله نيته؛ لقول الله –جل وعلا-: {يا أيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا
واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: ۲۰۰]، وقول النبي-صلى الله عليه وسلم- :
«رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله،
وأجري علي رزقه، وأمن الفتان» رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين عن النبي
أنه قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من
الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوه خير
من الدنيا وما عليها»، وفي صحيح البخاري-رحمه الله- عن النبي أنه قال : «من اغبرت
قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار».
ولا شك أن الدفاع عن الدين والنفس والأهل
والمال والبلاد وأهلها من الجهاد المشروع، ومن يقتل في ذلك وهو مسلم يعتبر شهيدا؛ لقول
النبي-صلى الله عليه وسلم- : «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون اهله فهو
شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد»([3]).
وحراسة الوطن من أعداء الداخل من أهل
الإفساد کمروجي المخدرات وأصحاب الفكر الضال، وممن يخططون لقتل الأنفس المعصومة،
وشق عصا الطاعة، وترويع الآمنين لا يقل أهمية عن أعداء الخارج، فإن مجاهدة هؤلاء
وأمثالهم مما يدخل في الدفاع عن الوطن.
وإذا سافر المرء عن وطنه ومحل إقامته شرع
له قصر الصلاة الرباعية، وهكذا الفطر إن كان صائما إجماعا، تخفيفا عليه، ورفقا
بترکه لموطن إقامته.
وجعلت الشريعة مال الزكاة مختصا بفقراء
البلد دون غيرهم ما لم يكن لنقلها مسوغ شرعي، فإن الأصل أن تفرق الزكاة على
مستحقيها من أهل بلد المال؛ كما جاء في حديث بعث النبي معاذا إلى اليمن، وفيه :
«فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على
فقرائهم»، فالمقصود بالزكاة إغناء الفقراء، ولو جاز نقلها لبقي فقراء البلد في
حاجة للمال، والفقير يرى الأموال التي تجب فيها الزكاة، ويقع بصره عليها، فلابد أن
يعطى منها؛ لكيلا تتولد عنده الكراهية والحسد على الأغنياء؛ ولأن الإسلام يحرص على
تحقيق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، وقد كان السلف يقولون: «جيران المال أحق
بزکاته».
وروى أبو عبيد بسنده أن معاذا نه بعث إلى
عمر بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر، وقال : «لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية، ولكن
بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم»، فقال معاذ:ما بعثت إليك بشيء
وأنا أجد أحدا يأخذه مني»، فلما كان العام الثاني بعث إليه شطر الصدقة، فتراجعا
بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه
قبل، فقال معاذ: «ما وجدت أحدا يأخذ مني شيئا»([4]).
وهذا يدل على استقرار هذا الأصل عند الصحابة في تحريم نقل الزكاة من بلد المال.
وهكذا نقل الأضحية من بلد المضحي إلى بلد
آخر، مالم يكن هناك حاجة أو مصلحة.
وجعلت الشريعة عقوبة الجاسوس القتل، لما
يلحقه من الضرر بالوطن وأهله.
وجعلت الحكم بالنفي أو التغريب عن الوطن
عقوبة لبعض الجرائم، كما تقدم في قاطع الطريق الذي أخاف الناس ولم يقتل ولم يأخذ
مالا، والزاني البكر، واتفق الفقهاء أن لولي الأمر أن يعزر بالتغريب لمن شاء من
رعیته إذا رأى المصلحة في ذلك ؛ لما في التغريب من إيحاش له، وتذكير بفضل وطنه
عليه، وأن يعود فردا صالحا مساهما في إصلاح مجتمعه.
كل هذا يبين أن مسألة الانتماء للوطن لها
ارتباط بالأحكام الشرعية، وأن الارتباط بالوطن ليس أمرا حادثا، وإنما هو مما أقرت
شريعتنا الغراء.
[الانتماء
اللحمة الوطنية، لمعالي أ.د/ عبدالرحمن السند، (ص 33-37)]