فإن يوم عرفة وهو: اسم لليوم التاسع من ذي الحجة، واسم للمكان المشهور به، ويسمى عرفات أيضًا[1]- له في الإسلام أهمية كبرى وفضائل عظمى، فمن فضائله أن الوقوف به من أركان الحج الذي لا يتم الحج إلا به، ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب: فقوله سبحانه: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198].
وجه الاستدلال على ركنية الوقوف بعرفة من هذه الآية: "أن كلمة "إذا" لا تستعمل إلا في الأفعال التي لا بد من وجودها كقولهم: إذا احمر البسر فأتني، ولا يقال: إن احمر البسر؛ وذلك لأنها في الأصل ظرفٌ لما يستقبل من الأفعال، وتتضمن الشرط في الغالب، فإذا جوزئ بها كان معناه إيقاع الجزاء في الزمن الذي أضيف إليه الفعل، فلا بد من أن يكون الفعل موجودًا في ذلك الزمان، وإلا خرجت عن أن تكون ظرفًا.
ومعلوم أن الإفاضة من عرفات من أفعال العباد، فالإخبار عن وجودها يكون أمرًا حتمًا بإيجادها، وصار هذا بمنزلة: إذا صليت الظهر فافعل كذا"[2].
وأما السنة:
1/ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ العَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ يَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا» فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]" متفق عليه.[3]
2/ عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديًا فنادى «الحجُّ عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فتم حجه، أيام منى ثلاثة أيام، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وأردف رجلاً ينادي بمنى» رواه الخمسة[4]، وعن عروة بن مضرس-رضي الله عنه- نحو ذلك[5].
سئل الإمام أحمد –رحمه الله- عن قوله صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" فقال: «هِيَ اكبر الْحَج واعظمه»[6]، ولقد فسر -رحمه الله- "الحج عرفة" بمعنى أن الحج لا يتم بدون عرفات، وذلك للاهتمام بأمرها وبيان أنها أهم ركن فيه، وليس معناه أن كل الحج عرفة، فإنه له أركان أخرى لا يتم إلا بها أيضاً كطواف الإفاضة[7]، وفي قَولُ النَّبِىِّ –صلى الله عليه وسلم-: "الحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ"، يَدُلُّ على فَوَاتِه بِخُرُوجِ لَيْلَةِ جَمْعٍ[8].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله -: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج»، وهذا ذكره في معرض تحديد وقت الوقوف، فَعُلِم أن من جاءها ليلًا فقد أدرك الحج، ومن لم يوافها حتى طلع الفجر فقد فاته الحج"[9].
وأما الإجماع، فالوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعا، فلقد نقل الإجماعَ جماعاتٌ من أهل العلم منهم ابن المنذر –رحمه الله- فقال: «وأجمعوا على أن الوقوف بعرفة فرض، ولا حج لمن فاته الوقوف بها»[10].
ومن فضائل يوم عرفة أنه يوم إِظْهَار دينِه وَتَمَامِ نعْمَتِهِ فلهُ الحمْدُ وَالْمِنَّة، فعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ-رضي الله عنه-، أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ، قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ»[11]
قال العيني-رحمه الله -: «قَوْله: (قد عرفنَا ذَلِك الْيَوْم) مَعْنَاهُ: أَنا مَا أهملناه وَلَا خَفِي علينا زمَان نُزُولهَا، وَلَا مَكَان نُزُولهَا، وضبطنا جَمِيع مَا يتَعَلَّق بهَا حَتَّى صفة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، وموضعه فِي زمَان النُّزُول، وَهُوَ كَونه عَلَيْهِ السَّلَام، قَائِما حِينَئِذٍ، وَهُوَ غَايَة فِي الضَّبْط، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ: أَنا مَا تركنَا تَعْظِيم ذَلِك الْيَوْم وَالْمَكَان، أما الْمَكَان فَهُوَ عَرَفَات، وَهُوَ مُعظم الْحَج الَّذِي هُوَ أحد أَرْكَان الْإِسْلَام، وَأما الزَّمَان فَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة وَيَوْم عَرَفَة. وَهُوَ يَوْم اجْتمع فِيهِ فضلان وشرفان، وَمَعْلُوم تعظيمنا لكل وَاحِد مِنْهُمَا، فَإِذا اجْتمعَا زَاد التَّعْظِيم، فقد اتخذنا ذَلِك الْيَوْم عيدا، وعظمنا مَكَانَهُ أَيْضا، وَهَذَا كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وعاش النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بعْدهَا ثَلَاثَة أشهر»[12]
ومن فضائل يوم عرفة أنه يوم عيد أهل الموسم ،وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم، وقد قيل: أنه يوم الحج الأكبر[13]، وقد جاء تسمية عيدًا في حديث عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ-رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»[14].
ومن فضائل يوم عرفة أن صيامه يكفر سنتين، فيسن لغير الحاج صيامه، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ»[15].
قال الحافظ ابن عبد البر –رحمه الله-: «أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ جَائِزٌ صِيَامُهُ لِلْمُتَمَتِّعِ، إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَأَنَّهُ جَائِزٌ صِيَامُهُ بِغَيْرِ مَكَّةَ»[16]، وقال العلامة ابن باز –رحمه الله-: «من صام يوم عرفة له أجر عظيم، ويستحب صيام يوم عرفة لغير الحاجّ، لكن الحاجَّ لا يصوم يوم عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، حجَّ ولم يصم يوم عرفة[17]، لكن في غير الحجِّ يصوم»[18].
ومن فضائل يوم عرفة أنه يوم مغفرة الذنوب، والتجاوز عنها، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، فعن عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟"[19]، وعن ابن عمر –رضي الله عنه– في حديث طويل وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَأَمَّا وُقُوفُكَ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: «هَؤُلَاءِ عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَيَخَافُونَ عَذَابِي، وَلَمْ يَرَوْنِي، فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي فَلَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ رَمْلِ عَالِجٍ، أَوْ مِثْلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَوْ مِثْلُ قَطْرِ السَّمَاءِ ذُنُوبًا غَسَلَهَا اللهُ عَنْكَ"[20]
وعن ابن عمر-رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شُعثًا غُبرًا"[21].
وقد حث أمته على الدعاء ورغب فيه، والإكثار من التهليل في يوم عرفة، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"[22]، فينبغي للمسلمين أن يروا الله من أنفسهم خيرا، وأن يهينوا عدوهم الشيطان ويحزنوه، بكثرة الذكر والدعاء وملازمة التوبة والاستغفار من جميع الذنوب والخطايا[23]، قال النووي –رحمه الله-: «وَلْيَحْذَرْ كلَّ الحذَرِ مِنَ التقصير فِي ذَلِكَ فَإنَّ هذَا الْيَوْمَ لَا يُمكنُ تَدَارُكُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَيُسْتَحَب الإِكْثَارُ مِنَ الاسْتِغْفَارِ والتَّلفظِ بالتّوبَةِ مِنْ جَميعِ الْمخَالَفَاتِ مَعَ الاعتقَادِ بالقلبِ وَأنْ يُكْثِرَ مِنَ البكَاءِ مع الَذكْرِ والدُّعَاءِ فهُناكَ تُسْكَب العبرَاتُ (1) وتُستقَالُ العثَراتُ وتُرْتَجى الطلَبَاتُ وَإنّهُ لمجْمعٌ عَظِيم وَمَوْقِفٌ جَسِيم يَجْتمع فيهِ خِيَارُ عِبَادِ الله الْمُخْلِصِينَ وَخَواصّهُ المقَربينَ وَهُوَ أعْظَم مجَامعِ الدُّنْيَا»[24].
اللهم وفق حجاج بيت الله الحرام لكل خير وبر وتقوى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أسامة بن سعود العمري
مدير عام الإدارة العامة للتوعية بالرئاسة العامة
[1]) « شرح كتاب الحج من عمدة الفقه لابن تيمية» (2/577)،و«نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار» (8/ 376).
[2] ) «شرح كتاب الحج من عمدة الفقه لابن تيمية» (2/572).
[3] ) رواه البخاري برقم (4520)، ومسلم برقم (151).
[4] ) رواه أحمد (18775) وأبو داود (1949)، والترمذي(889)، والنسائي(3997)، وابن ماجه (3015)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم ( 1703).
[5] ) رواه أبوداود (1945)؛ والترمذي (891)، والنسائي (3039 - 3043)، وابن ماجه (3016)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (1704).
[6] ) «مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله» (ص240).
[7] ) انظر: الفروع (3/525).
[8] ) «المغني» (5/424).
[9] ) «شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - كتاب الحج» (2/ 577).
[10] ) «الإجماع لابن المنذر» (ص57)، وممن نقل الإجماع: ابن حزم في: «مراتب الإجماع» (ص42)، والنووي في «المجموع شرح المهذب» (8/103)، وابن قدامة في «المغني» (5/267)، وابن القطان الفاسي في «الإقناع» (1/275)، والزركشي في «شرحه على مختصر الخرقي» (3/ 239).
[11] ) رواه البخاري برقم(45) ومسلم يرقم(3017).
[12] ) «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (1/ 264).
[13] ) «فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب» (1/173).
[14] ) رواه أبو داود برقم ( 2419)، والنسائي في " المجتبى " (5 / 252) ، والترمذي (773)،وصححه الألباني في سنن أبي داود (الأم ) برقم
[15] )رواه مسلم برقم (1162).
[16] ) «التمهيد» (21/ 164).
[17] )كما ثبت من حديث أُمِّ الفَضْلِ، شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ» رواه البخاري برقم (1658) ومسلم برقم (1123).
[18] ) انظر :«فتاوى نور على الدرب » (16/ 411)و (16/ 418) و(16/ 454).
[19] ) رواه مسلم برقم (1349).
[20] ) رواه البزار برقم (1082)، والطبراني في المعجم الكبير برقم (13566)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1155).
[21] ) رواه أحمد برقم (7089)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1152).
[22] ) رواه الترمذي، برقم (3585)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 472، وفي الأحاديث الصحيحة، 4/ 6.
[23] ) التحقيق والايضاح، (ص61).
[24] ) «الإيضاح في مناسك الحج والعمرة» (ص286).